لطالما جسّدت دبلوماسية الباندا الصينية الفريدة من نوعها، حسن النية والحفاظ على البيئة والمنفعة المتبادلة في نظر الرأي العام العالمي. ومع ذلك، تكمن وراء هذه الواجهة الساحرة شبكة معقدة من المصالح الاقتصادية والمناورات الدبلوماسية، والتي أصبح من الصعب تجاهلها. ما كان يُعتبر في السابق عملاً سخيًا للتعاون البيئي، أصبح الآن موضع تدقيق دقيق لمعرفة نواياه الحقيقية ونتائجه، حيث كشفت التحقيقات والتقارير الأخيرة عن واقع أشد قتامة مما كان يُتصوّر سابقًا.
Meric Sentuna Kalaycioglu
2025/2/24
English version | Chinese version | French version | German version
لعقود من الزمن، كان حيوان الباندا بمثابة سفير للصين. تاريخيًا، كانت الباندا تُهدى للدول كرمز لحسن النية، حيث بدأت تلك الممارسة في عام 1941 واكتسبت شهرة بعد تأسيس جمهورية الصين الشعبية عام 1949. وتحت قيادة ماو تسي تونغ، أُهديت الباندا لحلفاء مثل الاتحاد السوفيتي وكوريا الشمالية لتعزيز العلاقات الدبلوماسية. وفي عام 1972، قدمت الصين اثنين من الباندا إلى الولايات المتحدة بعد زيارة الرئيس نيكسون، مما مثل نقطة تحول في العلاقات الصينية الأمريكية. ومع ذلك، في أعقاب المخاوف بشأن انخفاض أعداد الباندا، تحولت الصين في عام 1984 من إهداء الباندا إلى إقراضها بموجب اتفاقيات برسوم عالية، مع مدفوعات سنوية تبلغ حوالي مليون دولار أمريكي للزوج، لتمويل الحفاظ على الباندا في الصين. تلك التكلفة المرتفعة ظاهريًا متواضعة مقارنة باتفاقيات التجارة المربحة التي غالبًا ما تصاحب قروض الباندا.
واليوم، يوجد حوالي 60 باندا فقط في 20 حديقة حيوان أجنبية، مما يسلط الضوء على حصرية هذه الترتيبات. وكمثال بارز على دبلوماسية الباندا، قدّم الرئيس الصيني شي جين بينغ اثنين من الباندا إلى موسكو في حفل مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين عام 2019، مما يؤكد التقارب المتزايد بين البلدين ويعزز توافقهما بشأن القضايا العالمية.
وفي حين تُعتبر قروض الباندا رمزًا لحسن النية، فإن وجودها غالبًا يخدم أهدافًا استراتيجية أعمق، وغالبًا ما يتزامن مع اتفاقيات تجارية أو استثمارية رئيسية. ففي عام 2011، استقبلت حديقة حيوان إدنبرة في اسكتلندا أول اثنين من الباندا. وبينما بدا نقل الباندا محور الحدث، تفاوضت المملكة المتحدة والصين في ذات الوقت على اتفاقيات تجارية بمليارات الدولارات تتعلق بشكل رئيسي بمصافي النفط الاسكتلندية. ومن الملاحظ انه يوجد صفقات مماثلة في دول أخرى، حيث ارتبطت العديد من قروض الباندا باتفاقيات تجارة اليورانيوم، وهي عنصر أساسي في طموح الصين لتوسيع قدرتها النووية بحلول عام 2050. حيث استقبلت أستراليا، التي تمتلك أكبر احتياطيات يورانيوم في العالم، زوجًا من الباندا في عام 2009، بعد ثلاث سنوات من إبرام اتفاقية توريد اليورانيوم مع بكين. كما اقترن قرض الباندا الكندي في عام 2013 باتفاقيات بشأن صادرات اليورانيوم وغيرها من المواد المتعلقة بالطاقة إلى الصين. ونظرًا للتوسع النووي السريع للصين، فقد أثارت هذه الصفقات اهتمامًا وقلقًا كبيرين. وليس من المستغرب أن يُنظر إلى الباندا غالبًا على أنها “الحيوان الأكثر استغلالًا في السياسة”.
وقد أثيرت تساؤلات أيضًا حول استخدام الأموال المنبثقة من دبلوماسية الباندا. وفي نوفمبر 2024، ذكرت صحيفة نيويورك تايمز (NYT) أنه على مدى العقدين الماضيين دفعت حدائق الحيوان الأمريكية 86 مليون دولار أمريكي للصين لاستضافة الباندا وعرضه، ولكن لم يتم استخدام جميع المدفوعات للحفاظ على الباندا على النحو المقصود. وبحسب ما ورد فقد تم إنفاق بعض المدفوعات، المفروضة بموجب قانون الأنواع المهددة بالانقراض الأمريكي لعام 1973، على مشاريع البنية التحتية مثل الطرق ومعدات المكاتب الحكومية وحتى المتاحف، بدلاً من حماية تلك الأنواع المهددة بالانقراض.
لسنوات عديدة، أثارت هيئة الأسماك والحياة البرية (FWS)، مخاوف بشأن افتقار الصين للشفافية. وفي عام 2003، أوقف المنظمون المدفوعات للصين بسبب عدم كفاية الأدلة والوثائق، لكنهم استجابوا لاحقًا للمطالب الصينية بتقديم تقارير مالية أقل تفصيلاً. وبحلول عام 2010، تصاعدت المخاوف أكثر، حيث توقفت المنظمات الصينية عن الإبلاغ عن نفقاتها تمامًا، وردًا على ذلك، جمّدت الجهات التنظيمية الأمريكية مدفوعات بقيمة 12 مليون دولار أمريكي على مدى عامين، لكن الأموال الموجهة إلى بكين استؤنفت لاحقًا لتجنب عدم وصول الباندا لحدائق الحيوان الأمريكية.
أثار ما نشرته صحيفة نيويورك تايمز موجة من النشاط في واشنطن. في 19 ديسمبر 2024، أصدر الرؤساء الجمهوريون للجنة الموارد الطبيعية في مجلس النواب، واللجنة الفرعية للرقابة والتحقيقات، خطابًا رسميًا إلى مساعد وزير الداخلية الأمريكي لشؤون الأسماك والحياة البرية والمتنزهات، بالإضافة إلى مديرية الأسماك والحياة البرية. أعربت تلك الرسالة عن مخاوف جدية بشأن نقص الشفافية وعدم كفاية تتبع المدفوعات المقدمة بموجب قانون الأنواع المهددة بالانقراض (ESA)، ودعت إلى مزيد من المساءلة بشأن الأموال المرسلة إلى الصين. ومع ذلك، نظرًا للتغيير الأخير في الإدارة الأمريكية في 20 يناير 2025، فإن الوضع الحالي لهذه التحقيقات غير واضح. هل يمكن أن تكون هذه حالة أخرى من حالات الاحتيال من فريق DOGE التابع لماسك؟
علاوة على ذلك، وُجّهت انتقاداتٌ لاستخدام الصين لدبلوماسية الباندا، باعتبارها مُقايضةً من جانب واحد. فبينما تدفع حدائق الحيوان المُستفيدة ملايين الدولارات مقابل امتياز إيواء الباندا، فإنها تتحمّل أيضًا تكاليف باهظة في رعايتها. وتُعرف الباندا بتكاليفها الباهظة في الحفاظ عليها، إذ تتطلب أنظمةً غذائيةً مُتخصصة، وأقفاصًا مُغلقة، ورعايةً بيطرية. إضافةً إلى ذلك، فإن أي أشبال تُولد في الخارج تُعتبر ملكًا للصين قانونًا، ويجب إعادتها قبل بلوغها سن الرابعة. على الرغم من ذلك، غالبًا ما تنظر حدائق الحيوان إلى الباندا على أنها استثمارٌ مُجدٍ نظرًا لقدرتها الفريدة على جذب الحشود وزيادة الإيرادات. لطالما شاركت حدائق الحيوان الأمريكية، بما في ذلك تلك الموجودة في واشنطن العاصمة وأتلانتا وسان دييغو، في اتفاقيات إقراض الباندا. في 24 يناير2025، ظهر الباندا العملاقان باو لي وتشينغ باو لأول مرة أمام الجمهور في حديقة حيوان سميثسونيان الوطنية في واشنطن العاصمة، حيث اجتذبا حشودًا غفيرة واهتمامًا إعلاميًا واسع النطاق.
يواجه المجتمع الدولي تحديًا حاسمًا: كيف نضمن أن تُفيد جهود الحفاظ على البيئة الأنواع المهددة بالانقراض حقًا، بدلًا من أن تُصبح مجرد أدوات للضغط السياسي والاقتصادي. قد تُسعد حيوانات الباندا زوار حدائق الحيوان حول العالم، لكن رحلاتها تُخبرنا قصصا أكبر بكثير عن أين تكمن مصالح الصين الحقيقية. وأخيرا فان التدقيق المتزايد حول دبلوماسية الباندا يلقي بظلاله على دورها الرمزي.
صورة: باندا عملاقة تأكل الخيزران أثناء جلوسها على خلفية علم الصين. © IMAGO / Depositphotos






